“عَمَلِيَّاتُ العَقْلِ-المَفْتوح” (Open-Mind Surgeries) – حَلْقَة (2)
إستراتيجية أم موسى عليهما السلام
عَزام زَقزوق
مُستَشارُ ومُدرِّبُ وإستراتيجـيُّ إدارةِ مشروعات
خلال مُعايشَتِنا كثيرٍ من الموظَّفين في بيئاتِ أعمالِهِم، خلال العَقْدَيْن الماضِيَيْن، اعترَضَتْنا ظاهرَةٌ، تمثَّلت في حالات مُتعدِّدةٍ، وأشكالٍ مختلفة، قاسِمُها المشتَرَك: قِلَّةُ مَنسُوبِ الإنتاجِيَّة… واستِشْراءُ الرُّوحِ السَّلبِيَّة… عند قطاعٍ مُعتَبَرٍ منهم. من أمثلتها الحَيَّة؛ على سبيلِ التَّمثيلِ لا الحَصْر:
- قولُ أحَدِهِم عبر وسيلَةِ تَواصُلٍ اجتماعيّ: “عندما أَمُرُّ بظروفٍ صعبة، لا أرغب بسببها في المجيء إلى العمل، وعلى الرغم من ذلك أذهب؛ لأنَّ هناك مَهامًّا بعضها عاجل، ولا أُحِبُّ جَعلَ مديري أو فريقي يتحملها. ولكني أعلمُ أنَّ حضوري لا يعطي نسبة المائة بالمائة (100%) مما ينبغي عمله من طَرَفي… هل، والحال كذلك، ينبغي عَلَيَّ المجيء للعمل؟ أم الأفضل لُزومِي البيت؟ حتى تتحَسَّن نَفسِيَّتي، وأحافظ على مستوى نظرة مديري وفريقي، لجَودَة عملي المعتادَة”.
- وقولُ آخَرٍ شاكِيًا: “دائمًا ما يَتَمَلَّكني شعورٌ سلبيٌّ في بيئة عملي فَحواهُ؛ أَنِّي وجِهازِ حاسوبي في الأهميَّةِ والقِيمَةِ سِيَّــان”!
- وأَخَذَ الإحباطُ واليأسُ بأحدِهِم مَأخَذًا بعيدًا! واصِفًا حالَهُ بالقَولِ: “عندما أذهبُ إلى عملي في الصباح الباكِر تَجِدُني كَمَن يذهبُ إلى القَبْر”!!
هذه الأمثلة وغيرها الكثير، تَتَمَظهَر بِصِيَغٍ مختلفةٍ، وأشكالٍ مُتنوِّعة، مُؤدَّاها جميعًا إهدارٌ للمَوارِدِ بَيِّــن، وضَربٌ للهِمَّةِ والمَعنَوِيَّةِ (Morale) في مَقْتَــل، لا بل وحُصولُ حالَةِ التآكُلِ (ضِدّ التكامُل) والانحدارِ المزدَوَجِ للقِيَـم (Values) بِمَدلُولَيْها: السِّعْرِيّ المِقْدارِيّ! وَالمَبْدَئِيّ القِيمِيّ! وبشكلٍ تَبادُلـِيٍّ مُتَسارِع، فيما بين طَرفَيِ المعادَلَة؛ شخصُ المُوَظَّــفِ وبيئَتُهُ المُوَظِّفَــةِ. والحالَةُ الأخيرة؛ هي الأَشَدُّ قَتامَةً وضَرَرًا، حيثُ تَتَجاوَزُ في آثارِها السلبِيَّةِ المستوى الفَردِيِّ والمُنَظَّمِـيِّ، إلى المستوى المجتَمَعِيّ الشعبيّ… فمِمَّا هو معلومٌ، بالضَّرُورةِ من فَنِّ التَّسويقِ، حقيقةٌ فَحْواها أنَّ: سُرعَةَ استِشْراءِ أثَرِ الخَبَرِ السَّلبيِّ! تَفوقُ سرعةَ استشراءِ أثرِ الخبرِ الإيجابيّ! والحالُ كذلك؛ فما هو الحلُّ الجذريّ! لهذه الظاهرة السلبية؟ ومِن أين يُبدَأُ به؟ وما هي ضمانَةُ استدامَتِهِ؟
إنَّ الحلَّ الجذريَّ لهذه الظاهرة السلبية هو بالفَهمِ والتَّصَوُّرِ، فالتَّطْبيقِ، لـما أسمَيتُهُ في بحثي الإستراتيجيّ “الإرادَةُ روحُ الإدارَة” (أرا) بـ”إستْراتِيجِـَّيــةِ أُمِّ مُوسـى عَلَيْهِما السَّلام” (Moses Mother’s Strategy). قال مُنشِـئُ هذه الإستراتيجيَّة ومُوحِيهـا -عزّ وجل- في تَبيِينِ أهمِّ مَعالمِها (Milestones) لأُمِّ موسى عَلَيهِما السَّلام، وبالتالي للعالَمِين: “إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ. أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ...” طه:38-40.
صاحِبَ الإستراتِيجِيَّةِ الناجِحَةِ يُنَمِّي ويُطَوِّرُ إستراتيجيَّتَه (رَضِيعَــهُ) في بيئة عمله! ومن خلالها! وفي الوقت ذاته يأخُذُ الأجْرَ على ذلك! ويُقَدِّمُ المنتَجَ أو الخدمة أو النتيجة المتوقّعة بإنتاجية وإتقانٍ عالِيَيْن
بِتَفَكُّرِنا في كلام اللطيف الخبير هذا… وبِفَهمِنا وتَصَوُّرِنا لدَلالَتِهِ الإدارية الإستراتيجية (وغيرِها الكثير؛ ممَّا لا ندَّعي إحصاءَهُ جميعًا واستيعابَهُ!) ندرك حقيقة الحلّ، والبَدءَ به، والمتمثِّل بِبَلوَرَةِ وَوَضْعِ الشخص الإستراتيجيَّةِ الفَردِيَّةِ المُستَدامَة (Sustainable) لنفسه، حيث الاستمرارية والعطاء والتطوُّر مُجتَمِعِين. نعم! إنَّ جوهَرَ الحلِّ وقِوامَهُ يُتَصَوَّرُ بإنشاءِ الموظَّف الناجح إستراتيجيةً ذاتِيَّةً، تُقادُ برؤيتِهِ هو (وليس مجرَّد حُلْمِهِ)، وبهذه البَلوَرَةِ والوَضعِ يكون مَثَلُهُ كَمَثَلِ أُمّ مُوسَى مع رَضيعِها موسى عليهما السلام؛ أرضَعَتهُ، ورَبَّتهُ في قَصرِ فِرْعَون (المُوَظِّــف)، وفي نفس الوقت أخذَت الأَجْرَ على إِرضاعِهِ (بِاعتبارها المُوَظَّــف) من فرعون!
هذا هو جوهَرُ الحلِّ الجذريِّ ومَربِطُ فَرَسِه، لمن أعجَزَتْهُ معادلات الحياة وتَعقِيداتِها؛ بإيجاد إستراتيجيَّةٍ ذاتيَّةٍ قِوامُها تبادُلِيَّةُ الرِّعايَةِ والتَّعزيز، وبالتالي المَنْفَعَة، فيما بين ما يُريدُ الموظَّفُ لنفسه… وما يُرادُ منه… هذا هو الجواب الصحيح لمن أراد التَّوفِيق (وليس التَّلَهِّي! والتَّمادِي! في التَّلفِيق!) فيما بين فُرَصِهِ وإمكاناتِهِ هو في نفسه… وفُرَصِ الآخَرين وإمكاناتِهِم فيه… هذا هو المَلْجَأ والمَنْجى -بعد الله عز وجل- لمن وَهَنَ في عَزيمَتِهِ، وَشَكا خُذلانَ مُحِيطِهِ… حتى لو كان التَّوافُـقُ نسبِيًّا! في عمليَّةِ التّوفِيـقِ بين إستراتِيجِيَّتَي الموظَّف ومُنظَّمَتِهِ الموظِّفة، فإنَّ المكاسِبَ المُتَحَصَّلَة ستَتَحَقَّقُ -بإذن الله- بمقدار هذه النسبة.
إنَّ صاحِبَ الإستراتِيجِيَّةِ الناجِحَةِ يُنَمِّي ويُطَوِّرُ إستراتيجيَّتَه (رَضِيعَــهُ) في بيئة عمله! ومن خلالها! وفي الوقت ذاته يأخُذُ الأجْرَ على ذلك! ويُقَدِّمُ المنتَجَ أو الخدمة أو النتيجة المتوقّعة بإنتاجية وإتقانٍ عالِيَيْن… وهذا ما يُعَبَّرُ عنه في الإدارة الحديثة بـ”الكَسْبِ المُشتَرَك” (Win-Win Situation). مع ملاحظةِ أنَّ الكاسِبَ الأعظَم نسبيًّا هو الموظَّف الناجح صاحب الإستراتيجية؛ حيث يكسِب:
أوَّلًا: خَلْقَ الحافِز، وإيجادَ الدافِع، وبناءَ “حِــسِّ المِلْكِيَّــة” (Sense of Ownership) والإرادة؛ والتي بِدَوْرِها تُمَثِّل رُوحَ الإدارة…
ثانيًا: الأجرَ والمَثوبةَ الإلهيَّة إن أخلَص النِّيَّة، وأردَفَها بالنصيحة لصاحب العمل… والإتقان (وهو الشكل الأرقى والأنقى للجَودَة) فيما يُنجِزُ من عمل، ويُقَدِّمُ من منتج أو خدمة أو نتيجة.
ثالثًا: الأجرَ الوافي، والرَّاتِبَ المكافئ، للعمل والإنجاز…
رابعًا: شُعورَ المُتعَةِ في أدائهِ العمل، وإحساسَ البَهْجَةِ في إنجازِه…
خامسًا: ميزةَ مَن يُضِيفُ المكانَةَ، ويُضْفِي القِيمَةَ، على مَوقِعِهِ الوَظِيفِيِّ؛ وَلا يَنْتَظِرهُما مِنْه.
سادسًا: التَّطْوِيرَ والتَّطَوُّرَ، اللَّذَيْنِ يَؤُولانِ بِدَورِهِما إلى امتِلاكِ الموظَّـــفِ الحُرِّيَّة في قرارِهِ الذَّاتِيّ، والاستقلالِيَّة في التَّقريرِ.
تحياتي للتَّغييريِّين النَهضويّين،،،