المزيد من نتائج البحث...

Generic selectors
Exact matches only
Search in title
Search in content
Post Type Selectors
Search in posts
Search in pages
portfolio

“عَمَلِيَّاتُ العَقْلِ-المَفْتوح” (Open-Mind Surgeries) – حَلْقَة (10)

رجالٌ لَم يُوفِّهِم التاريخُ حَقهُم

قبل سنواتٍ مَضَت، وأثناء مُعالَجَتي أحد المفاهيم الاجتماعية الإدارية الأصولية… بالتَّبَصُّرِ والتَّفَكُّرِ؛ بِمُوجِب ثُلاثِيَّة: النَّقلِ الصَّحيح، والعَقْل الصَّريح، والفِطْرَةِ السَّليمَة… استَوقَفَني شخصٌ استثنائيٌّ أنصَفَهُ التراثُ الإسلاميُّ الموثَّق الثابِت… ولم يُوَفِّهِ التاريخُ الإسلاميّ -الماضي منه والحاضر- حَقَّه؛ بالرَّغمِ من سيرَتِهِ البارِزَة! ومَوقِفِهِ الاستِثنائيّ! إنه الصَّحابيُّ البَدرِيُّ ثابِت بن أقْرَم العَجْلانيّ رضي الله عنه.

روى علّامَة المَغازي محمد بن إسحاق -يرحمه الله- بِسَنَدٍ ثابِتٍ قِصَّةَ مَعركَةِ مُؤتَة… وذكر فيها: “… ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ (بعد سُقوطِها) ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ أَخُو بَنِي الْعَجْلَانِ (رضي الله عنه). فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ. قَالُوا: أَنْتَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ. فَاصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ. فَلَمَّا أَخَذَ (خالد رضي الله عنه) الرّايَةَ دافَعَ القَوْمَ، وَخاشى (من المُخاشاة: وهي المُحاجَزَة؛ يعني خَشِيَ على المسلمين لِقِلَّةِ عَدَدِهِم) بِهِمْ، ثُمَّ انْحَازَ، وَانْحِيزَ عَنْهُ، حَتَّى انْصَرَفَ بالنَّاس” المحَدِّث: ابن هشام – المصدر: سيرة ابن هشام – الصفحة (5-28).

لن أسَلِّطَ الضَّوْءَ في هذا المَقامِ على شخصيةِ أبي سليمان خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ فقد أنصَفَهُ التراثُ الإسلاميّ، وَوَفّاهُ التاريخُ حَقَّهُ في الماضي والحاضر. وكذلك معركة مؤتة وسِباقَها وسِياقَها؛ فقد غُذِّيناها منذ نُعومَةِ أظفارنا… ما أودُّ تسليط الضوء عليه هو شخص الصحابيِّ الأشمّ ثابِت، وفي نقطتَينِ ثابِتَتَينِ؛ كاسْمِهِ رضي الله عنه:

أوَّلًا؛ هو صحابيٌّ كريمٌ من أهل بَدر؛ أي من السّابقين إلى الإسلام… وقد سَبَق خالد بن الوليد إليه، رضي الله عنهما. وشَهِدَ المشاهِدَ كُلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وبعد ذلك شَهِدَ حربَ الرِّدَّة واستُشهِدَ فيها…

هو صحابيٌّ كريمٌ من أهل بَدر؛ أي من السّابقين إلى الإسلام… وقد سَبَق خالد بن الوليد إليه، رضي الله عنهما. وشَهِدَ المشاهِدَ كُلَّها مع رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وبعد ذلك شَهِدَ حربَ الرِّدَّة واستُشهِدَ فيها…

ثانيًا؛ مَوقِفُهُ المذكور أعلاه في معركة مؤتة من الناحية الاجتماعية الإدارية عظيمٌ واستثنائيٌّ من زوايا عِدَّةٍ؛ منها الخمسةِ الآتية:

أولاهُما؛ أنَّ ثابتًا -رضي الله عنه- استشعَرَ مسؤوليةً (المسؤولية تساوي القُدرَة والاستِجابة) إضافيةً، وأناطَ بها نَفْسَهُ (… ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ…) في ظِلِّ ظرفٍ استثنائيٍّ غايَة في الارتِباكِ النفسيّ والعقليّ والجسديّ مُجتمعين…

ثانيهِما؛ أنَّه -رضي الله عنه- بادَءَ القَومَ وبادَرَهُم باقتراحٍ خَلّاقٍ وأخْلاقيٍّ في آنٍ واحد (… فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ! اصْطَلِحُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ.) في أجواءِ خَوفٍ وتَشتُّتٍ وضَغطٍ نفسيٍّ هائلٍ… وَوَجْهُ إبداعِ المُقْتَرَح يظهر في حُسْنِ تَأتّيهِ للقومِ والتِماسِ تنفيذِهِ مِنهم… ولَهُم… مع إبدائِهِ -رضي الله عنه- خُلُقَ الاحتِرامِ لإرادَتِهِم… وإدارَتِهِم… لمُقتَرَحِهِ هو!

ثالِثُهُما؛ أنه -رحِمَهُ الله ورَضِيَ عنه- عَرَفَ قَدرَ نَفْسِهِ، وَوَقَفَ عندَهُ، ولم يتجاوَزْهُ؛ في سبيل إنفاذِ وتحقيقِ أهداف المسؤولية التي استشعرها؛ فعند رَفعِهِ الراية من بعد سقوطها، أَبى إلا أن يُعطيها -مِن بعد الاصطِلاح والاتِّفاق- مَن هو أحَقُّ بِحَمْلِها، وأجدَرُ بقيادَةِ الجيش تَحتها… حيث (… قَالُوا: أَنْتَ. قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ). وهذا موقِفٌ لا يُوَفَّق إليه ويَقِفْهُ إلا عظيم الخُلُقِ من الناس؛ مِمَّن استَعلَت عندَهُم قِيَمُهُم ومَبادِؤُهُم على أنفُسِهِم وذَواتِهِم… وقَلَّ! لا بل نادِرًا! ما وَجَدنا، مِمَّن سَمِعنا وخَبَرنا من الناس، مَن هذا حالُهُ.

رابِعُهُما؛ أنه -رضي الله عنه- أبقى الرّايَةَ مرفوعةً بالرَّغمِ من حَراجَةِ الموقِف! وحَساسِيَّةِ الظَّرف! حتى اصطَلَحَ القومُ واتفَقوا على قيادةِ خالد رضي الله عنه. وهذا يَتَطَلَّبُ اجتماع قيمَتَين اثنَتَيْن؛ هما: الحِكْمَة (وهي قَولُ أو فِعلُ ما ينبغي، وبالشكل الذي ينبغي، وفي الوقت الذي ينبغي، ومع الكائن الذي ينبغي، وفي المكان الذي ينبغي) والشجاعَة. ومَعلومٌ أنَّ اجتماعَ هاتَيْن الخِصلَتَيْن في شخصٍ واحدٍ نادرٌ عزيز.

خامِسُهُما؛ أنه -رضي الله عنه- وبِذات الحكمة والشجاعة اللَّتَين رفض بهما حمل الراية وقيادة الجيش الإسلاميّ تحتها، دفع بها عن قَناعَةٍ وطِيبِ نفسٍ إلى مَن اصطَلَحَ القومُ على أهلِيَّتِهِ وجَدارَتِهِ، واتَّفَقوا على قِيادَتِهِ… رضي الله عنهم جميعًا.

قد يستهجِنُ البعضُ حُكمي الصارِخَ أعلاه؛ بعدم إيفاءِ الحقِّ التاريخيّ -الماضي والحاضر منه- لهذا الصحابيّ الكريم! أقولُ مُوقِنًا: إنَّ حُكمي مَبنيٌّ على دَليلِ الخِبرَةِ (الخبرة تساوي العِلم والتجرِبَة مُجتَمِعَيْن. ) المُعاشَة. وحيثُ أنَّ المعارِكَ والحُروبَ أعمالٌ ذاتُ طبيعةٍ مَشروعاتيةٍ نموذَجِيَّة، وتُدارُ بمِهْنَةِ وعِلمِ وفَنِّ إدارة المشروعات، فَفيما قدَّمتُ من مِئاتِ الدَّوراتٍ لم يستَطِع أحدٌ من السَّادَةِ والسَّيِّدات والآنِسات المشاركين الإجابَةَ عن سُؤالٍ فَحواهُ: مَن هو الصحابيّ الكريم الذي حمل راية المسلمين بعد سقوطها في معركة مؤتة، ومن ثم قام بدفعها إلى خالد بن الوليد؟ وما أن عرف بعضُهُم الإجابة حتى ذُهِلوا! وبادَروا أجهزة جوّالاتِهِم بالبَحثِ والتأكُّد!

إنه الصحابيّ الأغَرّ المَيْمون ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ العَجْلانيّ رضي الله عنه، وصلى الله وسلَّم على رسوله للعالمين؛ الذي ربّى هكذا جيل فريد من الصَّحابَةِ الغُرِّ المَيامين.

تحياتي للتَّغييريِّين النَهضويّين،،،