“عَمَلِيَّاتُ العَقْلِ-المَفْتوح” (Open-Mind Surgeries) – حَلْقَة (14)
لا يَفُلُّ الحَديدَ إلَّا الحَدِيدُ
عَزام زَقزوق
مُستَشارُ ومُدرِّبُ وإستراتيجـيُّ إدارةِ مشروعات
قبل أكثَرِ مِن ثَلاثةِ عُقود، وبالتَّحديد يوم الثلاثاء بُعَيْد يومِ عاشوراء عام 1412 هجريّ (الموافق: 23/07/1991م)، إبّان دِراسَتي الجامِعِيَّةِ في مدينة بونا-الهند، دُعينا وَفْدًا مُمَثِّلًا لاتِّحادِ الطَّلَبَةِ المُسلِمين (MSU) من قِبَلِ زُملاءٍ لنا في اتحادِ الطُّلابِ الإيرانيّين (ISU)، دُعينا لمقابَلَةِ السَّفيرِ الإيرانيِّ في مَقَرِّ اتحادِهِم في بونا. وقد اخْتِرتُ من قِبَلِ أعضاءِ وَفدِنا لحِوارِهِ ومُناقشَتِهِ بحُضورِهِم؛ حيث عَرَض باسمِ سفارَةِ دولتِهِ في الهند كافَّةَ أشكالِ التَّعاوُنِ المفتوح والمساعَدَة؛ بِوَصفِنا فِلَسْطينِيِّين، وأنصارٍ لحركةِ المقاوَمَةِ الإسلامِيَّةِ الفلسطينِيَّة. وقد رَكَّزَ سعادَتُهُ في حِوارِهِ مَعَنا على موضوعِ الوَحدَةِ الإسلامِيَّةِ وضَرورَتِها، ودَورِ الجُمهوريَّةِ الإسلاميَّةِ الإيرانيَّةِ في تعزيزِها… إلخ. ومِمّا كان لافِتًا مُرافَقَتُهُ مُعَمَّمٌ رافِضِيٌّ إيرانيٌّ يلبَسُ السَّواد، يَتَحَدَّثُ العربيَّةَ بِلِسانٍ أعجَمِيٍّ، وباللَّهْجَةِ اللُّبْنانِيَّة.
وقَد بادَرتُ السَّفيرَ ومُرافِقَهُ وأصحابَ الدَّعوَةِ بالشُّكر؛ باسمِ اتحادِنا، على الدَّعوَةِ والعَرْضِ الكَريمَين، وسَألتُهُ مُستَفْهِمًا: الوَحدَةُ الإسلاميَّةُ التي تَفَضَّلتَ بالتركيزِ عليها بِناءٌ لا بُدَّ له مِن أساس، فما هو أساسُهُ بفَهمِكُم وتَصَوُّرِكُم؟ أسهَبَ سعادَتُهُ في شَرحِ العُمومِيّات الإسلامية، ومُحارَبَةِ الصُّهيونِيَّة، والعَداوَةِ لأمريكا؛ بِوَصْفِها الشيطان الأكبر… إلخ. إلا أنني كَرَّرتُ سُؤالي واستِفْهامي بمزيدٍ من طَلَبِ البَيانِ المُحَدَّدِ والمُحَدِّدِ لماهِيَّةِ هذا الأساس. هنا تَدَخَّلَ المرافِقُ المُعمَّمُ بلُغَتِهِ العَرَبِيَّةِ المُكَسَّرَةِ بمزيدٍ من الواضِحات الفَضْفاضَة! لكن بِمَشاعِرِ امتِعاضٍ واستِياءٍ عَجَزَت لُغَةُ الدِّبلوماسِيّةِ عن إخفائِها… فبادَرتُ باسمي ومَن اختاروني بالقَول: إنَّ مَفهومَنا وتَصَوُّرَنا للوَحدَةِ الإسلاميَّةِ -نحنُ الفلسطينيين العَرَب المسلمين- أنها بلا أدنى شَكٍّ بِناءٌ ضروريٌّ للأمَّةِ الإسلامِيَّة، لكن على أساسٍ ومِعيارٍ من كتابِ اللهِ ﷻ وثابِتِ سُنَّةِ رَسولِهِ للعالمين ﷺ… وليس على أساسٍ ومِعيارٍ من مَذْهَبٍ أو طائِفَةٍ بِعَيْنِها. فإذا كُنّا مُتَّفِقين على هذا الأساسِ والمِعيارِ فمَرحَبًا بِكُم وبِعَرضِكُم الكريم، أمّا إن اختَلَفْنا فَشُكرًا لكم على دَعوَتِكُم الكَريمَة… فما كان من سَفارَةِ الجُمهوريَّةِ الإسلاميَّةِ الإيرانيَّةِ بُعَيْدَ هذا اللقاء إلا أن قَطَعَت الاتصالَ بنا والتواصُلَ مَعَنا بالمُطلَق! وفي الهند قاطِبَة!!
شاهِدُ الموقِفِ أعلاه وشَهادَتي حولَهُ تِبيانُ حقيقَةِ أن “لا يَفُلُّ الحَديدَ إلَّا الحَدِيدُ” ولا يَفُلُّ (أي يَثلُمُ ويَكْسِرُ حَدَّ) العقيدَةَ الباطِلَةَ إلا عقيدَةٌ حَقَّةٌ مَبْنِيَّةٌ على أساسٍ من نَقْلٍ صَحيح، وعَقْلٍ صَريح، وفِطْرةٍ سَليمَة. وإنّي مُنذُ حَوالَيْ الثُّلُثِ قَرنٍ من حياتي وأنا أرصُدُ حَراكَ وتَدَسُّسَ هؤلاءِ الضالِّين فِكرًا… المُنحَرِفين سُلوكًا… في جَسَدِ الأمةِ الإسلامِيَّةِ ضَعيفِ المَناعَةِ العَقَدِيَّة، وأتألَّمُ لضَعفِ عُلمائِنا الأفاضِل (وأبرَزُهُم أ. د. يوسُف القرضاويّ، وبَرنامَجِهِ التَّقارُبِيّ معهم)، وَرَجْرَجَةِ مُفَكِّرينا، ولَجْلَجَةِ دُعاتِنا الإسلامِيِّين في التَّعاطي مع ظاهِرَةِ الرَّفضِ (ولا أقولُ التَّشَيُّع!) العِلمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، ونشاطِ القائمين عليها، حتى باتَت هذه الظاهِرَة واقِعًا مُتَوَغِّلًا… ومُتَغَوِّلًا…
الأمةُ الإسلامِيَّةُ احتَضَنَت هؤلاء الرّافِضَة الضالِّين قُرونًا، لا بل أَلْفِيّات، من السِّنينَ أفرادًا وبُؤَرًا، ولَم تَضِقْ بهم ذَرعًا، وبِضَلالِهِم سَبَبًا، وأنصَفَتْهُم مِن نَفسِها، ومِن تُراثِها، فأبوا إلا التَّوَغُّلَ في جَسَدِها… والتَّغَوُّلَ عليها…
أحزَنُ وأتألَّمُ عندما أرصُدُ حَراكَ هؤلاء الضالِّين المنحَرِفين في واقِعِ بَيتِ المَقدِسِ وأكنافِهِ… وأعتَصِرُ ألمًا عندما أدرِكُ أنَّ إستراتيجِيَّةَ دَولَةَ هؤلاءِ الضالين المركزيَّةَ (إيران) قد أفادَت واستَغَلَّت خلال عُقودٍ من تَعاوُنِها وتَنسيقِها مع حركَةِ المقاوَمَةِ الإسلامِيَّةِ (حماس) وما زالت، أكثر مِمّا أفادَت واستَغَلَّت (حماس) في إستراتيجِيَّتها معهم (هذا إن أحسَنّا الظنَّ بِوُجودِ إستراتيجِيَّةٍ عند إخوانِنا أصلًا!)… حتى استَمْرَأَت (حماس) السُّخْرَةَ والاستِغْلال، وكُبِّلَت بالمِنَّةِ والأَفْضال؛ بحُجَّةِ أنَّ المحيطَ العربيَّ قد تَخَلّى عنها…!! وكأنَّ مِحوَرَ القضيةِ باتَ مُتَعَلِّقًا ومُعَلَّقًا فقط بحركة (حماس) وإستراتيجِيَّتِها! وذَويها! وليس مُتَعَلِّقٌ ومُعَلَّقٌ بِمِحوَرِ تَوحيدِ وإيمانِ وشَريعةِ الأمَّةِ الإسلامِيَّةِ قاطِبَة!!
هي دَعوَةٌ لجميعِ الكِيانات الحُرَّة، فضلًا عَمّا اصطُلِحَ على تسمِيَتِهِ بالإسلاميِّ منها، أن اركَبوا سفينَةَ الأمَّةِ الإسلامية؛ فلا عاصِم اليومَ من هَيَجانِ ومَوَجانِ الواقِعِ إلا بالاستِمْساكِ بالعُروَةِ الوُثْقى؛ من خلال الكُفْرِ بالطاغوتِ من جانبٍ، والإيمانِ بِمَن يُرجى منه –ﷻ– ما لا يَرجون، من الجانبِ الآخَر…
كنتم، يا سادَة، تُشكِّلون رافِعَةً مُلهِمَةً للأمَّةِ الإسلامِيَّةِ في بِداياتِكُم، فأصبَحتُم مَرفوعين مُلحَقين… كنتم أحرارًا في اتخاذِ قراراتِكُم، فأضحَيْتُم مُسَخَّرين… كنتم ظاهِرينَ بارِزينَ في مَواقِفِكُم وقاماتِكُم فَبِتُّم مُدافِعينَ…
ألَا رَجُلٌ، مِن أصحابِ الأيادي البَيْضاء، يوصِلُ شَهادَتي ومَقالي هذا للأخ أ./ خالد مَشعَل “أبو الوليد” قُبَيْلَ مُغادَرَتِهِ المكتَبَ السِّياسِيَّ لحركة (حماس)، بِوَصفِهِ أحَدِ المؤسِّسينَ المُتَسَنِّمينَ رِئاسَةَ مَكتَبِها السِّياسِيّ عِدَّة دَورات مُتَعاقِبَة؟ أم سَنَنْتِظرُ تدوينَهُ فَحوى شَهادَتِنا ومَقالَتِنا هذه مُذَكَّراتِهِ الشَّخصِيَّة؛ ضِمنَ اعترافاتِهِ المستقبَلِيَّةِ ودُروسِهِ المُستَفادَةِ، قَبْلَ وَفاتِهِ؟!
قد يقولُ قائلٌ ويتَساءَلُ مُتسائِلٌ لِمَ لَمْ تُناصِحْ وتوصِلْ شَهادَتَكَ وبَيانَكَ لحركة (حماس) مُباشَرَة دون جَهْرِ القَوْلِ وعَلانِيَةِ الفِعْل؟! فلا يُحِبُّ اللَّهُ ﷻ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ!
أقولُ، واللهُ ﷻ شهيدٌ على قَولي، أنَّ كُلَّ مُحاوَلاتي الاتصال والتَّواصُل مع حركة (حماس) عبرَ سنواتٍ وعُقودٍ قد باءَت بالإحباطِ والإخفاق… وآخِرُها مُحاوَلَةٌ مُضْنِيَةٌ من خلال أحَدِ المؤسِّسين المُخَطِّطين الإستراتيجِيّين من رِجالات الصَّفِ الأوَّل؛ بوَضعي رَسْمِيًّا “خُلاصَةَ فِكْرَةٍ” (Abstract) حول مُقتَرَحٍ إستراتيجيٍّ مُهِمٍّ، قَدَّمْتُهُ لوَضعِ وبناءِ ما اصطَلَحتُ على تَسمِيَتِهِ من طَرَفي باسْمِ: “النَّظَرِيَّـةِ السِّياسِيَّـةِ الإسلامِيَّـةِ المِعيارِيَّـةِ” (نِسـام). وهذا بُغيَةَ غَربَلَتِهِ، لا بل تَنخيلِهِ، مع المَعنِيّين مِن رِجالات السِّياسَة (Politicians) ومُتَخَصِّصيها/عُلمائِها (Political Scientists)، فما كان منهم إلا الإهمالَ وعَدَمَ الردِّ إلى يَومِنا هذا!! وسأضَعُ هذا المقترح الإستراتيجيّ -بإذن الله- بين أيدي أبناءِ شعبِنا والأمَّةِ الإسلامِيَّةِ ونُخَبِها قريبًا؛ إن لم تَتَحَمَّل حركَةُ (حماس) مسؤولِيَّتَها، بالردِّ على الأقَلِّ!! وسَأَمْضي في مَوقِفي هذا قُدُمًا ما حَييتُ؛ إلى أن يَؤوبَ المُبطِلُ إلى الحَقِّ، ويَفيءَ المُخطئُ إلى الصَّوابِ… فإبراءُ الإنسانِ ذِمَّتَهُ، مِمّا قد يُحسَبُ أو يَجرِيَ عليه، يُعَدُّ مِن أبسَطِ حُقوقِهِ.
الخُلاصَةُ؛ إنَّ تَوحيدَ وإيمانَ وشَريعَةَ الأمَّةِ الإسلاميَّةِ أهَمُّ وأكثرُ حُرمَةً من عَتَباتِ المساجِدِ التي لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إليها؛ ومنها المَسجِدِ الأقصى. وعَلَيهِ؛ فإنَّ تَوَغُّلَ وتَغَوُّلَ هؤلاءِ الرافِضَةِ الضالِّين المُنحَرِفين في واقِعِ الأمَّةِ الإسلامِيَّةِ أخطَرُ وأضَرُّ عليها مِن هَدْمِ أركانِ بِناءِ المسجِدِ الأقصى؛ أو حتى بِناءِ الحَرَمَيْن الشَّريفَيْن.
أهيبُ بكُلِّ المُهتَمِّين والمَهمومين مُشارَكَةَ شَهادَتي ومَقالي هذا على أوسَعِ نطاقٍ، وبمختَلِفِ وسائِلِ الاتصالِ المُعَدَّةِ للوُصولِ إلى أكبَرِ عَدَدٍ مُمكِنٍ من أبناءِ شَعبِنا الفِلَسْطينيِّ وأمَّتِنا الإسلامِيَّة؛ فالخَطْبُ جَلَلٌ، وأمَّتُنا تعيشُ حالَةَ مَخاضٍ غير مسبوقَةٍ… والحالُ يَقتَضي مِنّا ويَستَلزِمُ مواقِفَ (وليس مَوقِفًا واحدًا) بكُلِّ الأساليبِ المسؤولَة، والوسائلِ المُتاحَة.