“عَمَلِيَّاتُ العَقْلِ-المَفْتوح” (Open-Mind Surgeries) – حَلْقَة (5)
بين المَوجود والمَنشود
عَزام زَقزوق
مُستَشارُ ومُدرِّبُ وإستراتيجـيُّ إدارةِ مشروعات
“… إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ…” الرَّعد:11. لن يَتغيَّرَ ما بِنا حتى نُغيِّرَ ما بأنفُسِنا… ومَن أرادَ بُلوغَ المَنشودِ، وجَب عليه التصَبُّر على تشخيص المَوجودِ. وإن التغييرَ والنهضة المَنشودَيْن، يستَوجِبان عُمقَ تشخيصِ الفسادِ والانحطاطِ المَوجودَيْن؛ من جانب، وتحديدَ إمكانات التغيير والنهضةِ؛ من الجانب الآخر. لا مَناصَ ولا مَفَرّ من حَملِ أنفسِنا على هذه الحقيقة الإلهِية السُّنَنِية الأزلية.
نعم، إن التشخيصَ العلميّ الصحيحَ الصريح -على مَرارَتِهِ ومُقاوَمةِ النفسِ الأمّارَة بالسُّوءِ له- هو نِصفُ الحَلّ على الأقل؛ نصفُ الحل في مسيرةِ التغييرِ والنهضة، وعلى المستوَيَيْن الشخصيّ والمُنَظَّميّ. وإلا فلماذا؟ ولأجل ماذا نُبادِئُ ونُبادِرُ بالتغيير والنهضة؟
ذُو العَقْلِ يَشْقَى في النَّعيم بِعَقْلِهِ … وأَخُو الجَهَالَةِ في الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
إن من بَدَهِيّات الأشياء؛ أن مَن لا يعترفُ بجَهلِهِ أو مَرضِهِ لن يُبادِئَ ويبادِر إلى التعلُّم أو التَّطَبُّب. فتحصيلُ الكَرامةِ والعِزَّةِ والخَيريَّةِ لا يكونُ للجاهِلِ السَّبَهْلَلِ من الناس. فضلًا عن المُوَحِّدِ المؤمِنِ بالله واليوم الآخِر منهم! وامتلاكُ الإمكانات والثَّرَوات -وحسْب- ليس الحل؛ وإلا فإن كثيرًا من غِنى ثَرَوات منطقتنا العربية كان -وما زال- مِحنَـــةً عليها… لا مِنحَـــةً لها… هذا كلهُ من ناحية.
مِن العقل تكفينا حقيقةُ أن عددَ عمليات التخطيط من مُجمل عمليات علم ومِهْنَة وفَنّ إدارة المشروعات يبلغُ أربعًا وعشرين (24) عملية، من أصل تسعٍ وأربعين (49)
ومن ناحيةٍ أخرى، إن من المعلوم بالضرورة من الدِّين، والعقل، والفطرة، أن العِلمَ يسبِقُ القولَ والعمل في الحياة. وحالُ مَن يطلبُ الدليل والبرهان على هذه الحقيقة كحالِ مَن قيل فيه:
وَلَيسَ يَصِحُّ في الأفهامِ شيءٌ … إذا احتاجَ النهارُ إلى دَليلِ!
وكذا الحالُ مع التخطيط “Planning”، الذي يسبِقُ التنفيذ “Executing”، ودَورِه في إدارةِ مشروعات التغيير والنهضة ونَجاحِها… حيث إن ضرورتَهُ ورُشدَهُ من الأمورِ المعلومَةِ من الدِّين والعقل بالضرورة. من الدِّين يكفينا نصٌّ شرعيٌّ صحيح صريح؛ قاله مَن أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِم -صلى الله عليه وسلّم- قُبَيل بَدء جَولات التفاوض مع قُريش زَمان الحُدَيبِيَة: “… وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا…” الراوي: المِسْوَرُ بنُ مَخْرَمَة ومَروانُ بنُ الحَكَم – المحَدِّث: البخاريّ – المصدر: صحيح البخاريّ الرقم (2731).
ومِن العقل تكفينا حقيقةُ أن عددَ عمليات التخطيط من مُجمل عمليات علم ومِهْنَة وفَنّ إدارة المشروعات يبلغُ أربعًا وعشرين (24) عملية، من أصل تسعٍ وأربعين (49)، هي كل عمليات إدارة المشروعات؛ وهذا بموجب دليل المتن المعرفي لإدارة المشروعات ومِعيارِها القياسيِّ العالميِّ. وعليه؛ فإن التخطيطَ، من الناحية العِلمِيةِ المِهْنِيةِ الصِّرف، يحوزُ ما نسبته خمسين (50) بالمائة تقريبًا من إدارةِ ونجاحِ أي مشروعٍ في الوُجود.
هذا كلهُ ونحن بمواجَهَةِ حقيقَةٍ موضوعيةٍ حَتمِيَّة؛ مُفادُها أنَّ مستوى التَّنْفِيذِ في المشروعات قَلّما يَرتَقي لِمُستَوى التَّخْطِيطِ الصَّائِبِ الصَّحيح. فَكَيْفَ بِهِ إذا كان التَّخطِيطُ أَصلًا! خطأً أو ضعيفًا؟ أما لماذا؟ بِرَغمِ بَدَهِيَّة ويَقينِية الحقائق أعلاه، نجدُ تمنُّعًا واستِنكافًا! لا بل تحايُلًا ومقاومةً للتخطيط الصَّائِبِ الصَّحيح في واقعِنا العربيّ؟ وإن كان هناك من قَبولٍ له، فلماذا يكون عادةً بأسلوبٍ مَظهريّ شَكليّ، لا يَمَسُّ الجَوهَر والحقيقَة؟
أُقَرِّرُ -من مَوقِع مسؤوليتي المِهْنِية والأخلاقِية- أنَّ ضَعفَ التخطيطِ أو خَطَئِه في واقعِنا، نحنُ العرب، ظاهرةٌ ثقافية “Cultural” في الأساسِ والسَّبَب. فضلًا عن كونها إدارية “Managerial”. وإذا عَلِمنا أن ثقافة المجتمعات هي المُستَنبَت والحاضِنَة لممارساتهم الإدارية، فإنَّ هذا يستَدعي فينا ويستَوجِب علينا استشعار مسؤولية التغيير في مستوى البِنيَة التَحتِيةِ؛ التي تقوم عليها الممارسات الإدارية عند الإنسان العربيّ؛ ألا وهي ثقافتُه الطابعَةُ لحياتهِ الفردية والمُنَظَّميَّة، والتي قِوامُها مجموعُ المعارفِ والمعتقداتِ والأخلاقِ والسياساتِ والقوانينِ والعاداتِ والتقاليدِ والفنونِ… إلخ.
إن الواقعَ العلميّ والمِهْنيّ يفرِضُ علينا، نحن الإداريّينَ، الاعترافَ والتسليمَ بحقيقةٍ فحواها أن جُلَّ إشكالاتِنا ومَشاكِلِنا في واقعنا العربيّ تَتجاوزُ نِطاقَ وحَدَّ سيطرةِ وتحكُّمِ العلومِ والحلولِ الإدارية، لِتنتهي في نطاقِ، وعلى حَدِّ، سيطرةِ وتحكُّمِ العلومِ والحلولِ السياسية، هذا بالرغم من كبير المشتَرَك بينهما. ومعلومٌ أن الإدارةَ والسياسةَ في الأساس كلاهما علومٌ اجتماعية “Social Sciences”؛ مُستَنبَتُهُما وحاضِنتُهُما ثقافة “Culture” المجتمع. وإن جازَ لنا التعبير؛ فإننا نقول: إن اللهَ عز وجل لَيَزَعُ “يردَعُ ويمنَع” الناسَ بسُلطانِ السياسَةِ مَا لا يَزَعُ بقُرآنِ الإدارَة.
مِمّا هو مُقرَّر في علم أصول الفِقه الإسلاميِّ أن “الحُكمَ على الشَّيءِ فَرعٌ عَن تَصَوُّرِهِ” وحُكمُنا المَبني على خِبرَتِنا اليَقينِيَّةِ المُعاشَة، وليست التصَوريَّةِ وحسْب، في جُلِّ (وليس كُلّ!) مشروعاتِ واقِعِنا التغييريةِ النهضويةِ، أنَّها تُدارُ بأحلامِ العَصافير، لا تَخطيطِ المِهْنِيِّين المُؤَهَّلين.
فمن المفارَقات والتناقُضات التي خَبِرتُها في واقعنا المشروعاتيّ الإستراتيجيّ، وبالتالي استَوجبَ عَلَيّ دَقُّ ناقوسِ الخطر، وكتابةُ مَقالي هذا؛ أذكرُها تمثيلًا لا حصرًا:
المُفارَقة (1): تجِدُ رجالَ/سَيّدات الأعمال “Businesspersons” في واقِع سُوقِنا العربي (وجُلُّهُم في الحقيقةِ تجارٌ أو مُضارِبون “Traders” وحسْب! وليسوا بِالمُسْتَثمِرينَ “Investors”)! تجدهم يستَسيغُون ويتَقَبَّلون مُدَّةَ الأسابيع في التخطيطِ، مثلًا، لمشروعات مُباريات كرةِ القَدم وهي أعمالٌ مشروعاتية نموذجِيَّة حيث مُدَّةُ تنفيذِها بِضعُ ساعات. بينما لا يُطيقون ولا يتحمَّلون المدّةَ الزمنيةَ نفسَها في التخطيطِ لمشروعاتِ يدومُ التنفيذُ فيها شهورًا أو سنوات. ولَيتَنا فَلَحْنا في أيِّهِما!
المُفارَقة (2): حركةٌ إسلاميَّة عريضَة أكَّدَ أحدُ قادَتِها، وهو -يرحمه الله- قاضٍ وفَقيهٌ دُستورِيّ، من قَبلِ نصفِ قَرن من الزمن، في كتابٍ له مُتَداوَل (الإسلامُ: بين جَهْلِ أبنائِهِ وعَجْزِ عُلَمائِهِ – الاتحاد الإسلاميّ العالميّ للمنظّمات الطلابية -الطبعة الخامسة- صفحة “47” – فِقْرَة “4”) أكَّد سِياسِيًّا -وبشكلٍ قطعيٍّ- أنَّ الحكومةَ والدَّولَةَ المنشودَةَ هي دَولةٌ “دينِيَّـــة” إسلامية! وفي السنواتِ الأخيرة وَجَدنا الحركةَ نفسَها تُنادي وتُؤكِّدُ سياسيًّا بأنَّ الحكومةَ والدولةَ المنشودةَ هي دولةٌ “مَدَنِيَّـــة”! فأين مشروعُ بناءِ “النظريةِ السياسيةِ الإسلاميةِ المعياريةِ” (نِسام)؛ التي نَنظُرُ بها، ومن خلالها؟! وأينَ نَفاذُ البَصَرِ والبَصيرَةِ عند هؤلاء؟
المُفارَقة (3): في غَمرَةِ أحدِ الاجتماعاتِ الاستشارية، لأحدِ المنظّمات، أجهَدَني إقناعُ رئيسِها الماليّ التنفيذيّ “CFO” بأن إصرارَهُم على الامتِناعِ -لاعتِبار توفير التَكْلِفَة من مَنظورِهِم الماليّ المحدود وليس الإدارِيّ المُتكامِل المُستَوعِب- من صَرفِ مَبلَغٍ قليل نسبيًّا من المال في التخطيط لمشروعٍ قائم سيتَسبَّبَ بأضرارٍ وخسائر في التنفيذِ قد تبلُغُ أضعافًا مُضاعَفة من المبلغ المراد؛ حتى اضطرني إلى تمثيلِ الحالَةِ -مَجازيًّا- بِنُكْتَةِ الشخص الذي قام بالبحث عن قطعةِ نَقْدٍ مَعدِنِيَّة، فقدَها في الظلام، بالاستِنارةِ بإشعالِ النار في وَرَقَةِ عشرة الدنانير!
الخُلاصَةُ النّافِعَة؛ مِمّا هو مُقرَّر في علم أصول الفِقه الإسلاميِّ أن “الحُكمَ على الشَّيءِ فَرعٌ عَن تَصَوُّرِهِ” وحُكمُنا المَبني على خِبرَتِنا اليَقينِيَّةِ المُعاشَة، وليست التصَوريَّةِ وحسْب، في جُلِّ (وليس كُلّ!) مشروعاتِ واقِعِنا التغييريةِ النهضويةِ، أنَّها تُدارُ بأحلامِ العَصافير، لا تَخطيطِ المِهْنِيِّين المُؤَهَّلين، وهذا من أهمِّ أسباب اتساعِ الهُوَّةِ المُخِلَّةِ بالتوازُنِ بين الموجودِ والمنشودِ.
لعلّ مقالَنا التشخيصيّ الكاشِف هذا لأهمّ الأسباب الموجودَة؛ والحائِلَة بيننا والنهضةِ المنشودَة. لعلّهُ يُقدِّمُ مَدخلًا لشَطْرِ الحلِّ، وهو الشطرُ الأوَّليّ والأَوْلى بالهَمِّ والاهتِمام… وعليه؛ أهيبُ بكل المَهمومين والمُهتَمِّين مُشارَكَةَ حقائِقِه على أوسَعِ نطاقٍ، وبمختَلِف وسائِل الاتصال. إعذارًا إلى الله عز وجل، وإبراءً للذِّمة، ولعَلَّهُم يَتَّقون!
تحياتي للتَّغييريِّين النَهضويّين،،،