“عَمَلِيَّاتُ العَقْلِ-المَفْتوح” (Open-Mind Surgeries) – حَلْقَة (12)

تَعالَوْا نُشايع عَليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْه

Picture of عَزام زَقزوق

عَزام زَقزوق

مُستَشارُ ومُدرِّبُ وإستراتيجـيُّ إدارةِ مشروعات

إنَّ الإنسانِيةَ في آخِرِ قُرابَةِ عَقدٍ ونِصفٍ من الزمن قد عاشَت فَيَضانًا غير مَسبوقٍ في تبادُل المعلومات؛ من خلال ضخِّ وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعي، وسِباقِها المَحموم في كل ما من شأنه تسهيلُ تَدَفُّق هذا الفَيْض العِلميّ والإعلاميّ… حتى غَدا الشخصُ في هذا العصر قادرًا -وبمُفرَدِهِ- على مُمارسَةِ دَورٍ كامِلِ الأركانِ لوِزاراتِ الإعلام!.

ومِمّا نعتقدُ بَدَهِيَّتَهُ من العقل الصريح أنَّ التزايُدَ النسبيّ لضَخِّ شيءٍ -أكانَ مادِّيًّا أم مَعنَوِيًّا- في قناةٍ ومُستَقَرٍّ واحدٍ يَقتَضي اطِّرادِيًّا، من الناحِيَةِ العِلمِيَّة الإداريَّة، ما يُكافِئُهُ نِسبيًّا من عَمَلِيّات وإجراءات تَصفِيَتِهِ وتَجويدِه، وإلا فإنَّ مستوى نَقاءِ هذا الشيء وجَودَتِه -ومُستَقَرِّهِ كذلك وَوِعائِه- سينخَفِضُ تِلقائيًّا.

وعليه؛ فإنَّ ازدِيادَ ضَخِّ وفَيْضِ المعلومات غير المسبوق يقتضي طرديًّا زيادة عمليات وإجراءات غَربَلَتِها، لا بل تَنخيلِها، مِمّا يَشوبُها من آراءٍ واعتقاداتٍ باطِلَةٍ، أو ما يُخالِطُها من مُغالطاتٍ وأفكارٍ خاطِئَة… بِغَيرِ ذلك تكونُ النتيجَةُ الطبيعيةُ تَدَنِّي وانخِفاض مُستوى سَدادِ وصَوابِ معلوماتِنا النَّقلِيَّةِ والعَقلِيَّةِ والفِطريَّةِ، وبالتالي مَقَرّاتِها من عُقولِنا، وأَوعِيَتِها من قُلوبِنا، والتي بِدَورِها ستَنعَكِسُ على سُلوكِنا القَوليّ والعَمليّ، صَلاحًا أو فَسادًا.

إذا كان هذا أمرُهُ في التحرُّزِ والتثبُّتِ والتبَيُّنِ فيما انتَفَعَ به وهُو نفسه –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من العَرَبِ الأقْحاحِ الفُصَحاء في لُغَتِه، فما هو أمرُنا ونحن لَسنا من أقحاحِ العرب ولا فُصَحائهِم؟.

ومِن المعلومِ بالضرورَةِ من الشريعةِ والمنهاجِ الإسلامِيَّيْن وُجوبُ ولُزومُ التَّثَبُّتِ والتَّبَيُّنِ فيما نَنتَفِعُ به من النقل الشرعيّ، وغَيرِه… وفي هذا حَشْدٌ غَفيرٌ من نُصوصِ القُرآنِ الكَريم والسُّنَّةِ النَّبَويَّةِ الثابِتَةِ (الصَّحيحُ منها والحَسَن)؛ لا يَخفى على إنسانٍ سَوِيّ، فَضلًا عن مسلمٍ بالغٍ عاقل.

وبِناءً على هذا الحَشد صاغَ رابِعُ خُلَفاءِ الأمَّةِ الإسلاميةِ الراشِدِين -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مَنهَجِيَّةً عِلمِيَّةً عَمَلِيَّةً سَهلَةً في التَّحَرُّزِ والتَّثَبُّتِ والتَّبَيُّنِ في تَعاطيهِ مع نُصوصِ سُنَّةِ رسول رب العالمين -صلى الله عليه وسلَّم- نُقِلَت عنه بسَنَدٍ ثابتٍ؛ حيث بَيَّنَها بقوله: “كُنْتُ إِذَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلَّم حَدِيثًا نَفَعَنِي اللَّهُ بِمَا شَاءَ مِنْهُ، فَإِذَا حَدَّثَنِي عَنْهُ غَيْرِي اسْتَحْلَفْتُهُ، فَإِذَا حَلَفَ لِي صَدَّقْتُهُ“.

وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حَدَّثَنِي -وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلَّم- قَالَ: “مَا مِنْ رَجُلٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا فَيَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ، ثُمَّ يُصَلّي رَكْعَتَيْنِ، فَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إِلا غُفِرَ لَهُ” إسنادُهُ صحيح.

بِموجِبِ ما ذُكِر؛ كانت تساؤلاتُنا الاستِهجانِيَّةُ المفتوحَة: إذا كانت هذه مَنهَجِيَّةُ عليّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في التحرُّزِ والتثبُّتِ والتبَيُّنِ فيما انتَفَعَ من النقل الشرعيِّ وهُو مَن عاشَ عَصرَ النُّبُوَّةِ، وعصر الخِلافَةِ الراشِدَة كامِلَيْن، فَبِأيِّ مَنهَجِيَّةٍ نَنتَفِعُ نحن من النقل الشرعيّ؛ من بعد قُرابَةِ الأربَعَةِ عَشْر قَرنًا من ذَيْنَكِ العَصرَيْن؟!! وإذا كان هذا أمرُهُ في التحرُّزِ والتثبُّتِ والتبَيُّنِ فيما انتَفَعَ به وهُو نفسه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- من العَرَبِ الأقْحاحِ الفُصَحاء في لُغَتِه، فما هو أمرُنا ونحن لَسنا من أقحاحِ العرب ولا فُصَحائهِم؟!! وإذا كان هذا شأنُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما انتَفَعَ وهُو مَن هُو في رَجاحَةِ العقل، وغَزارَةِ العِلم، ودِقَّةِ ميزانِ النَّقْدِ والنَّقْض، وكَمالِ الإيمان، وسُمُوِّ الأخلاق… الخ. من الخِصالِ التي أنزَلَتهُ من رَسولِ ربِّ العالمين -صلى الله عليه وسلَّم- مَنزِلَةَ هارونَ من موسى عليهما السلام، غير أنه لا نَبيَّ ولا رَسولَ بعدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلَّم… وإذا كانت هذه طريقَتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في تَحرُّزِهِ وتَثبُّتِهِ باستِحلافِهِ ومُناشَدَتِهِ! صَحابِيًّا عَدلًا ضابِطًا مِثْلَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمَعين- فما هي طريقَتُنا نحن ولَسنا بمستوى رِضى اللهِ عزَّ وجلَّ عنهم، وعَدالَتِهِم وضَبْطِهِم، ولا مَن تَبِعَهُم؛ مِمَّن نَقَل عنهم؟

وكذلك؛ إذا كانت هذه مَنهَجِيَّتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في رَبطِهِ فَهْمَ النَّقلِ الثابِت بالنَّفْعِ والفائِدَةِ، وليس مُجَرَّدِ أحكامِ الحَلالِ والحَرامِ والوُجوبِ والاستِحبابِ والكَراهَة؟!! أو تَحجيرُ سَعَةِ إسلامِ “الشَّريعَـــةِ” والمِنهاجِ في الحياةِ على مُجرَّدِ إسلامِ “الشَّعيـــرَةِ” والطُّقوسِ وحَسْب؟

وأبو الحَسَن -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِن أوائِلِ مَن بايَنوا وَفَرَّقوا بَيْنَ “النُّصوصِ” الشرعِيَّةِ الثابِتَة؛ بِوَصفِها حَقٍّ إلهِيٍّ سَماوِيٍّ سَرمَدِيٍّ مُطلَقَ… و”الآراءِ” الشخصِيَّةِ والعامَّة؛ بِوَصفِها صَوابٍ بَشَرِيٍّ أرضِيٍّ مُؤَقَّتٍ مُحَدَّد… وهذا بِقَولِهِ المِعيارِيّ القِياسِيّ، والذي صارَ في تاريخِنا الإسلاميِّ الإنسانيِّ دَليلًا أُصولِيًّا مُتَلَقًّى من عُمومِ الأُمَّةِ الإسلامِيَّةِ بالقَبولِ والالتزام: “لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ؛ وقَد رَأَيْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم يَمْسَحُ على ظاهِرِ خُفَّيْهِ“.

إذا كان هذا شأنُهُ ومَنهَجِيَّتُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فيما ذَكَرنا؛ من التحَرُّزِ والتثَبُّتِ والتبَيُّنِ والتَّبايُنِ مع نُصوصِ سُنَّةِ رَسولِ رَبِّ العالمين -صلى الله عليه وسلَّم- والانتِفاع مِنهـا وبِهـا، ألَيس هذا الشأنُ وتِلك المنهجيةُ بِنا -نحن في هذا العصر- أولى وأجدَر، وعَلَيْنا أوجَبَ وأَلْزَم، ولَنا أنفَعَ وأفضَل؟

إن كان لَنا في عَدَمِ، أو قِلَّةِ، التَّحَرُّزِ والتَّثَبُّتِ والتَّبَيُّنِ فيما مضى من أجيالٍ بالجَهلِ عُذرٌ، أو بالتَّقصيرِ مُبَرِّرٌ! فما هو عُذرُنا ومُبَرِّرُنا الآن؟! وقد مَنَّ اللهُ -عزَّ وجلَّ- على الأُمَّةِ الإسلامِيَّة، بل والإنسانِيَّةِ جَمْعاء، بخِدمَةِ سُنَّةِ رسولِهِ للعالَمين -صلى الله عليه وسلَّم- أكثرُ من أيِّ وقتٍ مَضى؛ بِتَخريجِها من بُطونِ المخطوطات والمَراجِع، وتَصفِيَتِها على أسُسٍ وبمَعاييرَ عِلمِيَّةٍ حَديثِيَّةٍ اختِصاصِيَّةٍ؛ وتَنقِيَتِها مِمّا شابَها وغَيَّر فَحواها، ومِن ثَمَّ تقديمِها سَهلَةً لَذَّةً للمُتَعاطينَ المُنتَفِعين.

إن كان لنا فيما مضى العُذرُ والمُبرِّر! فما هو عُذرُنا ومُبَرِّرُنا الآن؟! وقد تَيَسَّرَت وسائلُ التواصُل وتَطَوَّرَت الأساليبُ؛ بإمكانِيَّةِ تَبادُلِ ما هو نَقِيّ وجَيِّد من الحقائق والمعلومات، وما هو سَديد وصائِب من الآراء والأفكار.

أيُّ إثمٍ نَبوءُ به إن حَدَّثْنا بكُلِّ ما سَمِعنا ونَسمَع! وأيُّ إهانةٍ للعقلِ الإنسانيّ، فضلًا عن المسلم، أن يُغرَسَ فيه ما هو ضَعيفٌ، أو ضَعيفٌ جِدًّا، أو مَوضوعٌ؛ من الرِّواياتِ والأخبارِ والقَصَصِ والسِّيَرِ والمَغازي؟

أيُّ إثمٍ نَبوءُ به إن حَدَّثْنا بكُلِّ ما سَمِعنا ونَسمَع! وأيُّ إهانةٍ للعقلِ الإنسانيّ، فضلًا عن المسلم، أن يُغرَسَ فيه ما هو ضَعيفٌ، أو ضَعيفٌ جِدًّا، أو مَوضوعٌ؛ من الرِّواياتِ والأخبارِ والقَصَصِ والسِّيَرِ والمَغازي… الخ! ويُبتَلى بالإدمانِ عليها، والمُزاوَلَةِ لها، باسْمِ الشريعة الإسلامية؟ وأيُّ إضعافٍ وتَوْهينٍ لأساسِ الشريعةِ والمنهاجِ الإسلامِيَّيْن نَقتَرِفْهُ إن لم نَكُفَّ عن ذلك؟

أهيبُ بعُلمائِنا، وَوُعّاظِنا، ومُفَكِّرينا، وأئِمَّةِ مَساجِدِنا وخُطَبائِنا، وَدُعاتِنا، ومُتَخَصِّصينا، ومُثقَّفينا، ونُخَبِنا الإسلاميةِ الكرام، أهيبُ بهم جميعًا، اتِّباعَ سُنَّةِ الخُلَفاءِ الراشِدينَ المَهدِيّينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم أجمَعين؛ بِخِدمَتِهِم وَعَضِّهِم النَّواجِذَ على سُنَّةِ رَسولِ رب العالمين صلى الله عليه وسلَّم، وإحياءَ مَنهَجِيَّةِ أبي الحَسَن عليّ بن أبي طالب -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- المذكورَةِ؛ في التَّحَرُّزِ والتَّثَبُّتِ والتَّبايُنِ في التعاطي مع نُصوصِ ذات السُنَّةِ النبويَّةِ الخالدة، والانتِفاعِ مِنهـا وبِهـا، ومُشايَعَتِهِ (مُتابَعَتِهِ وتَأييدِهِ) فيها.

راجينَ اللهَ القدير أن يُصلِحَ حالَ مُتَعاطي النُّصوصِ الشرعِيَّةِ دون تَحَرُّزٍ أو تَثَبُّتٍ أو تَبَيُّن أو تَبايُن؛ بِهِدايَتِهِم لِـما كان عليه سَلَفُ أمَّتِنا الإسلامية الصالِح الراشِد. أو يُصلِحَ الحالَ بِتَوَلّي أصحابِ العُقولِ والقُلوبِ الإسفِنْجِيَّةِ منهم… ويَكفينا قُصورَ هِمَمِهِم! وسوءَ عَبَثِيَّتِهِم! بما شاء، وكيف شاء إنه سميعُ الدعاء…

تحياتي للتَّغييريِّين النَهضويّين،،،