إذا كُنـتَ مَعَنا؛ فأَنـتَ “قِدِّيـس”! وإلَّا… فأَنتَ “إبْـلِيـس”!
عَزام زَقزوق
مُستَشارُ ومُدرِّبُ وإستراتيجـيُّ إدارةِ مشروعات
ثبَت في السِّيرَةِ النَّبَويَّةِ الخالِدَةِ أنَّ عَبداللَّهِ بنَ سلامٍ، بَلَغَهُ مَقْدَمُ النبيِّ ﷺ المَدِينَةَ فأتاهُ يَسأَلُهُ عن أشياءَ… فأجابَهُ ﷺ عن مسائِلِهِ جميعًا، فخَتمَ المساءلَةَ بِقَولِهِ:
“أشهَدُ أنَّكَ رَسولُ اللَّهِ، ثُمَّ قالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ اليَهُودَ قَومٌ بُـهُـتٌ (جَمْع: بَهّات، أي: يُمارِسون البُهْتان: الكَذِب المُفتَرى!) إن عَلِمُوا بإسلامِي قَبلَ أن تَسأَلَهُم بَهَتُونِي عِندَكَ. فَجاءَتِ اليَهُودُ، ودَخَلَ عبدُاللَّهِ البَيتَ (حاجِبًا نَفسَهُ عنهم) فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أيُّ رَجُلٍ فِيكُم عبدُاللَّهِ بنُ سَلامٍ؟ قالوا: أعلَمُنا وابنُ أعلَمِنا، وأَخيَرُنا وابنُ أخيَرِنا. فَقالَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ: أفَرَأَيتُم إن أسلَمَ عبدُاللَّهِ؟ قالوا: أعاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ! فَخَرَجَ عبدُاللَّهِ إليهِم، فَقالَ: أشهَدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وأَشهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ. فَقالوا: شَرُّنا وابنُ شَرِّنا، ووَقَعُوا فِيه (أي: سَبُّوهُ، وَعابُوهُ، وَاغْتابُوهُ… إلخ)!” (البُخاريّ)
لا يَخفى على مُتَأمِّلٍ أنَّ هذه الحالَةَ النَّبَويَّةَ الثابِتَةَ تَحمِلُ في طَيَّاتها دُرُوسًا مُستَفادَة، صالحةً في/لِكُلِّ زَمانٍ ومَكانٍ…! ومِنَ المَعلُومِ أنَّ: العِبْرَةَ بِعُمومِ اللَّفظِ لا بِخُصوصِ السَّبَب.
ومِن هذِهِ الحالات ظاهِرةٌ بارزةٌ توَرَّطَت فيها الحَرَكاتُ الإسلامِيَّةُ المعاصِرَةُ خلال العُقودِ الماضِيَة؛ حيثُ بَعضُ مَظاهِرِ الظُّــلمِ الذي تَلَبَّسُوا به، وَأَوقَعُوهُ على الكَثيرِ من أَتباعِهِم؛ مِمَّن أخَذُوا على عاتِقِهِم تَجَشُّم عَناءِ النُّصحِ، والنَّقدِ البَنَّاءِ، لـمَسِيرَتِهِم… وسِيرَتِهِم…!
وَهؤلاءِ النُّخبَة، من النَّاصِحِينَ النَّاقِدِينَ، كانوا مِمَّن تَرَبَّوا وترَعرَعُوا أصلًا في مَحاضِنِ هذه الحَرَكات، وعَرَفَتهُم ساحاتُ العَمَلِ الدَّعَوِيّ، وَمَحافِلُ نُصرَة الإسلامِ: الدِّين، والشَّريعَة، والمِنهاج… لا وبَل كانُوا مِن أَعلَمِ أَتباعِهم وأَخيَرِهِم، بشهادَتِهم هُم أنفسُهُم… وغيرُهُم!
وَعِوَضٌ عن تَقدِيرِ هذه الحَرَكاتِ لِنُصحِ هؤلاءِ النُّخبَة، وتَثمِينِ نَقدِهِم في إغناءِ المَسِيرَةِ وإنضاجِها… كانَ مِنهُم العَكسُ تَمامًا؛ حيثُ قامُوا بإعلانِ الحَربِ عَلَيهِم، وَالوُقوعِ فِيهِم… بُهتانًا و “شَيْطَـنَـة” (Demonizing). كَمِثل مُمارَساتِ: اغتِيالِ الشَّخصِيَّةِ (Character Assassination)! أو تَـلطِيخ سِيَرِهِم وتَقزِيم أدوارِهِم! أو الاصطِياد في مائِـهِم، وتَضخِيم أخطائِـهِم! أو مقاطَعَتِـهِم وإقصائِـهِم، أو دَمْغِهِم بـ: “الـمُتَساقِطينَ عَلى الطَّريقِ“! دُونَ تَـكلِيفِ أَنفُسِهِم، وَلَو مَرَّةً واحِدَةً، بِـمُراجَـعَـةِ سَقْطــاتِ هـذا الطَّـرِيـق…!! وَعَدَمِ أَهلِيَّتِهِ فِي الوُصُولِ وَالتَّوصِيـل!!
يا للأَسَف! لقد مارَسُوا كُلَّ الممارَساتِ إلَّا واحِدَةً؛ وهي الإنصاتُ للنُّصحِ، والاستفادَةُ من النَّقدِ، على مدى عُقُود!
لا أنسى في حَياتي حِواراتٍ صادِقَةً معَ أحَدِ ناشِطِي هذه الحَرَكاتِ وَالمُوالِينَ لها: عاطِفِيًّا، ونَفْعِيًّا، وتَوَجُّهًا نَفسِيًّا عَقلِيًّا (Attitude)… حيث سارَرْتُهُ بِحالِهِمُ الذي يُرثى له… وتَرَدِّيهِمُ الذي يعِيشُونه… فما كانَ مِنهُ إلَّا أن رَدَّ عَلَيَّ مُنذِرًا ومُحَذِّرًا: إن مَضَيتَ بِنَقدِك هذا فَسَوف يُدَمِّرُونَـك! آلَـمَتْني عِبارَتُهُ، وما زالَت؛ بما تَضَمَّنَت من دَلالاتٍ مُوجِعَةِ التأثير… ومُفجِعَةِ الأثر…!
أمَّا أبرزُ أسبابِ هذِهِ الظاهِرَةِ في واقِعِ الحَرَكاتِ الإسلامِيَّةِ المعاصِرَةِ، وبالذات الفِلَسطِينِيَّة منها! فهي: أُحادِيَّةُ التَّفكِيرِ والرَّأيِ… واستِشراءُ غَرِيزَةِ القَطِيعِ (Herd Instinct) في واقِعِهِم… وَالتَّعالي وشُعُورُ التَّفَوُّقِ المُتَّسِمِ بِسُلُـوكِ التَّواضُعِ واللُّطفِ (Condescension)!! لاعتِبارِ أنهم بِبَيتِ المقدِسِ وأَكْنافِهِ (تَأثُّرًا بالزِّيادَةِ الحَدِيثِيَّةِ الضَّعِيفَةِ الـمُنكَرَة: “قالُوا: يـا رَسُولَ اللهِ؛ وَأَينَ هُـم؟ قـالَ: بِبَيْـتِ المَقْدِسِ، وَأَكنافِ بَيْـتِ المَقْدِس”) وَاقتِرانُ ثَقافَةِ التَّابِعِيَّـةِ وَنَـزعَةِ التَّنفِيذِ عِندَ المجتَمَعِ الفِلَسطِـينِيِّ بِـتَـربِـيَـةِ طـاعَةِ…! وَجُـندِيَّـةِ…! حَرَكَـةِ الإِخوانِ المُسْلِـمِـينَ، خِلالَ أكثرَ من نِصفِ قَرنٍ؛ حَيثُ أفرزَت تِلكُمُ التَّربِيَةُ مُنَظَّـمـاتٍ إسلامِيَّــةً؛ طَــغى فِيـها وَتَـغَــلَّــبَ جِـهـادُ العَـمَـلِ وَالسِّنـانِ! عَـلـى اجـتِـهادِ العِـلمِ والبَـيـان!!
أمَّا غايةُ مَقالي هذا فهِيَ دَعوَةُ هذِهِ الحَرَكاتِ، وَما حَوَت من أتباعٍ… وأنْجَبَت من مُنَظَّماتٍ… إلى عَمَلِ مُراجَعاتٍ جادَّةٍ… وَالـكَـفِّ عَـنِ استِـمْـراءِ مُـمـارَسَةِ دَورِ الضَّحِيَّةِ (Self-Victimization)! وَبَـدءِ ثَــوراتٍ بَـيضاءَ ذاتِيَّـةٍ! وَاستِـبْـداعِهِم إستْراتِيجِيَّـاتٍ مُسْتَـقبَــلِيَّـةً نَـهضَوِيَّـة! وَإلَّا… فإنَّ خَـرْقَـهُمْ قد باتَ يَتَّسِعُ عَـلـى راقِـعِـهِـم!!
كنتُ وما زلتُ أرجو لهُم… ومِنهُم… الاتِّعاظَ بِالدُّرُوسِ المُستَفادَةِ! والتَّعَــلُّـمَ! بِما يُعرَفُ بِــ “الطَّـرِيقَـةِ السَّهْـلَـةِ” (Softway)! لا أن يُجبَرُوا على ما يُـعـرَفُ بِــ “الطَّرِيقَةِ الصَّعبَةِ“ (Hardway)! فالـشَّـقِـيُّ مَـنِ اتَّـعَـظَ بِـنَـفْـسِـه!!
وَالخُلاصَة؛ أنَّ كثيرًا مِمَّن لَيسُوا مَعَ الحَرَكاتِ الإسلامِيَّةِ المعاصِرَةِ لا يُعَدُّون “أَبالِيسَ/أَبالِسَة” في ميزانِ الشَّرعِ الإسلامِيِّ، وإن كانُوا كذلِكَ في مِيزانِ هذِه الحَرَكات… قالَ رسولُ الله ﷺ: “إِنَّ أَوْثَـقَ عُرى الإيمانِ: أَنْ تُحِـبَّ فِي اللهِ، وَتُـبْـغِضَ فِـي الله” (صَحِيحُ التَّرغِيب والتَّرهِيب) وَعَلَيهِ؛ فإني أَهِيبُ بأبناءِ هذه الحَرَكاتِ وَأتباعِها نَزْعَ حَصاةِ التَّعَصُّبِ الـحِزبِيِّ مِـن أَحذِيَتِهِم وَالانطِلاق؛ فَإِنَّ رِياحَ التَّـغيِـيرِ وَأَمواجَهُ… قَد أَغرَقَت غالِبِيَّتَهُم…! وَسَتُغرِق بَقِيَّـتَـهُـم…! وَسُفُنَــهُـم!!
“… أَفَرَأَيتَ إذا كانَ ظـالِـمًا كَـيفَ أَنصُـرُهُ؟ قالَ ﷺ: تَـحجُزُهُ (أَو تَمنَعُـهُ، أَو تَـأخُـذُ فَوقَ يَدَيهِ!) مِنَ الظُّــلمِ؛ فَإنَّ ذلِـكَ نَصرُه” (البُخارِيّ) إنَّ نَصـرَ أَخِي مَظــلُومًا بَيِّـنٌ وَمَعلُومٌ… لكِن ما يَنبَغِي تَـبيِينَهُ بِجَـلاءٍ أَنَّ نَصـرَهُ ظالِـمًـا! بِالـحَـجـزِ وَالـمَـنعِ… لا يَـتَطَـــلَّـبُ استِـئذانًا! أَو تَـرَجِّيًا!! مِنهُ.
اللهُمَّ! أَرِنـا الحَقَّ والصَّوابَ والصَّحيحَ حقًّا وصَوابًا وصَحِيحًا، وارزُقْنا اتِّباعَه!
التاريـــخ: 02، جُمادى الآخِرَة (06)، 1443هـ
الموافق: 05، يناير (01)، 2022م